كان المسجد الأقصى قيمة حيّة في وجدان المسلمين الأوائل؛ خاصة في المرحلة المكيّة؛ إذ كان قبلتهم، رغم أن الكعبة الحرام كانت قائمة بين ظهرانيهم.
***
وكانت زيارة المسجد الأقصى هي حلقة الوصل بين عهدين في عمر الدعوة الإسلامية؛ فما قبل الإسراء كانت مرحلة الاستضعاف، وما بعد الإسراء كانت مقدمات فعلية لمرحلة التمكين والدولة والخلافة.
***
وكان المسجد الأقصى هو المحطة التي لابد منها ليعرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأرض إلى السماء.
فقد أراد الله أن يرفعه مكانًا عليًا، ويريه من آياته، وليفرض على الأمة ركن الصلاة ؛ فلما شاء الله ذلك؛ لم يكن من بقعة تحل لذلك سوى بيت المقدس؛ فكان الإسراء كرحلة أفقية تمهيدية للوصول إلى القاعدة المقدسة؛ ومنها تبدأ الرحلة الرأسية الكبرى إلى السماء؛ إلى سدرة المنتهى إلى ما علم الله!
***
هكذا كان المسجد الأقصى حلقة الوصل بين السماء والأرض.
وكان المكان الذي جمع الله ُ فيه الأنبياء صفوفًا مؤتمين بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وإنما جعل الإمام ليُؤتم به، وما صلى بهم إلا بإذن الله، فقد رضي الله أن يكون الإسلام مهيمنًا على الدين كله وعلى الشرائع كلها.
" وَلاَ يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِى بَيْتِهِ"، فهو مسجده كما أن مسجد المدينة مسجده، وهو مسجد الأمة الإسلامية كما أن المسجد الحرام مسجد الأمة الإسلامية.
صلى بهم إمامًا وفيهم إبراهيم جده؛ وما محمدٌ إلا رسولٌ أحيا الحنيفية السمحة من موات، فبات هو الوريث الشرعي لها في عصر العلو الوثني.
صلى بهم إمامًا وفيهم موسى كليم الله، ولن يستنكف موسى بن عمران أن يكون جنديًا من جنود محمد، قال الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لَوْ أَنَّ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِى" [أحمد: 15546، حسنه الألباني في الإرواء:1589].
صلى بهم إمامًا وفيهم عيسى، روح الله، وهل النصرانية الحقة إلا أناجيلَ دفنها عبادُ الصليب؛ فاستخرجها اللهُ تعالى على يد محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . آيات بينات هنَّ أمُّ الكتاب؛ جمعت ـ بين دفتي المصحف ـ تعاليم الإنجيل، وأحكام التوراة، ومزامير الزابور، ووصايا الصحف الإبراهيمية ...
صلى بهم، ويأبى الله أن يصلي بهم غير ابن عبد الله.
صلى بهم، ويأبى الله أن يكون المسجد الأقصى لغير هذه الأمة، أو يكون تحت سلطان غير هذه الملة.
***
وكانت رحلة الإسراء لهدفٍ سامق عظيم؛ أشار إليه ربنا في أول آية من سورة الإسراء: " لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ".
وقد أكد هذا الهدف في سورة النجم ـ التي أشارت إلى رحلة المعراج ـ، فقال تعالى:
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}النجم18
ولِـمَ يريه من الآيات الكبرى، وعجائب الكون، والمواعظ الصارخة ؟
ألم تكفِ آيات القرآن، وما يُتلى في بيوت النبوة من الحكمة والموعظة الحسنة ؟
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}الإسراء1
كأن الله أراد أن يختزل تعاليم المرحلة المكية في هذه الرحلة.
كأن الله أراد أن يكرم نبيه في نهاية المرحلة المكية، في رحلة لم تذق نفسٌ بشريةٌ معشار ما في هذه الرحلة من لذة، لم ولن تتكرر في تاريخ الكون.
وهي بمثابة الرحلة التربوية التأهيلية لتهيئة نفس الداعية للانتقال إلى مرحلة الدولة والتمكين، فلا دولة إلا بقومة، ولا تمكين بلا تربية..
***
كما أتت هذه الرحلة الروحانية الجسمانية في إطار سلسلة الجرعات التربوية التي جرعها الداعية العظيم؛ إذ بدأ بخلوة التفكر والتحنث في غار حراء، ثم رحلة قيام الليل الطويلة في دار الأرقم ومكابدة العمل التنظيمي السري خلال المرحلة السرية، ثم رحلة الدعوة الجهرية وما فيها من مشقة على النفس، ومكابدة لأجلاف الأعراب، وصعاليك العرب، وبذاءات ذوي السلطان، وإيذاءات أصحاب المصالح الشخصية ... ومرحلة المعسكر التقشفي والسجن والحصار في شِعب أبي طالب فذاق النبيُ الكريمُ مرارةَ العيشِ، وقسوةَ الشظف، وشدة الجَعْف، وطول السغب، وخشونة الضفف، واستمر تحت وطأة مجاعة حقيقية مدة ثلاث سنوات كوامل، خرج منها إلى عام الحزن حيث فقد العم والزوج، ثم انتقل بمفرده في رحلة دعوية إلى الطائف؛ فذاق فيها من الإيذاء والعذاب ما لم يذقه مذ بدأ دعوته إلى الله.
ثم كانت رحلة الإسراء والمعراج؛ المعجزة، العجيبة، التي لم تستغرق ساعة؛ بل التي لم تلبث هنيهة، وكان ما حصّله فيها النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستغرق قرونًا وقرونًا.. كانت هذه الرحلة الكريمة المترعة بالآيات الكبرى ـ وجبة تربوية مكثفة، اشتملت على العديد والعديد من المشاهد الرهيبة التي تقشعر منها الجلود من هول وقعها؛ كرؤية مصائر الزناة، وخطباء الفتن، ومضيعي الأمانات، ومانعي الزكاة، وآكلي الربا وناهبي أموال اليتامى، ثم تُوجت هذه الرحلة المباركة بالتاج المحلى والقدح المعلى .. بالصلاة التي هي عماد الدين، التي هي أسمى وشيجة بين العبد وربه، ولتظل الصلاة نفحة المعراج الخالد التالدة؛ وليدين كُل مسلمٍ بالفضل والعرفان لهذه الرحلة المباركة، وليقف المسلم حول تعاليم الإسراء وقفة تأمل وتدبر بين الفينة والأخرى.
***
وإليك ـ يا قارئي الحبيب ـ بعض أخبار المعراج كما ورد في بعض صحيح السنة؛ مع بعض التهذيب، مع عنونة أدخلتُها على النصوص، مع تعليق قصير للاستفادة التربوية :
تهيئة قبل الرحلة
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ، [وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ] مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ [هو جبريل] فَقَدَّ ... فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ، [يعني من ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ]، فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ"[البخاري: 3598].
قلتُ: وهي عملية تهيئة لتحمّل وطأة هذه الرحلة، كما هيأه اللهُ من قبل في صغره بحادث مماثل، هو حادث شق الصدر.